تشهد شركات التكنولوجيا العملاقة سباقاً محموماً على ضخ استثمارات غير مسبوقة في البنية التحتية للذكاء الاصطناعي، في وقت تتصاعد فيه التساؤلات حول مدى قدرة هذه الموجة من الإنفاق على تحقيق عوائد اقتصادية حقيقية.
بين طموح السيطرة على مستقبل التقنية، وقلق المستثمرين من احتمالات المبالغة في الرهانات، تبدو الأسواق في حالة ترقب حذر لمآلات هذا السباق المالي والتكنولوجي الذي يغيّر موازين القوى داخل وادي السيليكون.
وفي ظل تصاعد التنافس بين “غوغل” و”ميتا” و”مايكروسوفت“، تجاوز الإنفاق الرأسمالي لهذه الشركات خلال الربع الأخير وحده حاجز 80 مليار دولار، ما يعكس رهاناتها الكبرى على أن البنية التحتية ستكون مفاتيح النفوذ في عصر الذكاء الاصطناعي. إلا أن هذا السخاء المالي الهائل لم يُقابل دائماً بترحيب من الأسواق، التي باتت أكثر حساسية تجاه السرعة التي يمكن أن تتحول بها الاستثمارات إلى أرباح فعلية.
وفي حين ترى الشركات أن هذا الإنفاق ضرورة استراتيجية لضمان الريادة المستقبلية، تتنامى بين المحللين والمستثمرين مخاوف من تكرار سيناريوهات “فقاعات التكنولوجيا” التي أطاحت بأسواق سابقة.
وهنا يتجدد السؤال الجوهري: هل يقود سباق الإنفاق إلى بناء اقتصاد ذكاء اصطناعي أكثر نضجاً، أم إلى جولة جديدة من المبالغة والتضخم المالي؟
حجم الإنفاق
تشير صحيفة “فايننشال تايمز” في تقرير لها، إلى أن:
- غوغل وميتا ومايكروسوفت أنفقوا ما يقرب من 80 مليار دولار خلال الربع الأخير على البنية التحتية للذكاء الاصطناعي، لكن المستثمرين كانت ردود أفعالهم مختلفة بشكل ملحوظ تجاه خططهم لزيادة هذا الإنفاق التاريخي.
- عززت الشركة الأم لغوغل خططها للإنفاق الرأسمالي لعام 2025 بمقدار 8 مليارات دولار إلى 93 مليار دولار، وحققت إيرادات قياسية بلغت 100 مليار دولار في الربع الأخير.
- ميتا بدورها أشارت إلى إنفاق أعلى كثيرا على الذكاء الاصطناعي، والذي قد يتجاوز 100 مليار دولار العام المقبل.
- مايكروسوفت من جانبها أفادت بأن الإنفاق الرأسمالي بلغ 35 مليار دولار أميركي في الربع الأول، بزيادة قدرها 74 بالمئة على أساس سنوي، و5 مليارات دولار أكثر من المتوقع. ويتوقع المسؤولون التنفيذيون إنفاقًا يقارب 140 مليار دولار العام المقبل.
وقال ديك مولاركي، المدير الإداري لشركة إدارة الأصول SLC Management ، إن ردود الفعل المتنوعة تجاه خطط أرباحهم وإنفاقهم “تؤكد مدى حساسية المستثمرين تجاه السرعة التي يمكن أن يحقق بها الذكاء الاصطناعي الإيرادات”.
وأضاف: “يخشى المستثمرون من أن يؤدي الاندفاع نحو قيادة السوق إلى تجاوز الحد الأقصى. لا أحد يحتاج إلى التذكير بأن التاريخ حافل بحلقات من الحماس التكنولوجي التي ألحقت الضرر بالمستثمرين الأوائل في نهاية المطاف”.
سباق استثنائي
من جانبه، يقول المستشار الأكاديمي بجامعة سان خوسيه، الدكتور أحمد بانافع لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”:
- شركات التكنولوجيا الكبرى – غوغل وميتا ومايكروسوفت- أنفقت نحو 80 مليار دولار خلال الربع الأخير على البنية التحتية للذكاء الاصطناعي، وذلك في سباق غير مسبوق للسيطرة على مستقبل التقنية.
- إلا أن ردود فعل الأسواق جاءت متفاوتة، ما يعكس تزايد القلق من الفجوة بين الطموح والنتائج الفعلية.
- المؤشرات الحالية تؤكد أن صبر المستثمرين “ليس بلا حدود”.. مرحلة “الإنفاق من أجل الريادة” تقترب من نهايتها، لتحل محلها مرحلة جديدة عنوانها: من سيتمكن أولاً من تحويل استثمارات الذكاء الاصطناعي إلى قيمة اقتصادية حقيقية.
إنفاق أكثر مما ينبغي
وتقول شبكة “سي إن بي سي” الأميركية في تقرير لها، إن الرئيس التنفيذي لشركة ميتا، مارك زوكربيرغ، يبدو أنه يكرر نغمة مألوفة عندما يتعلق الأمر بالذكاء الاصطناعي: من الأفضل أن تُنفق أكثر مما ينبغي على أن تُنفق أقل مما يلزم.
خلال مكالمة مناقشة نتائج الربع الثالث للشركة يوم الأربعاء، تطرق زوكربيرغ إلى حجم إنفاق ميتا الكبير هذا العام، وعلى رأسه استثمار بقيمة 14.3 مليار دولار في شركة Scale AI، ضمن خطة لإعادة هيكلة وحدة الذكاء الاصطناعي التي باتت تُعرف الآن باسم Superintelligence Labs.. وقد أعرب بعض المتشككين عن قلقهم من أن هذا الإنفاق، من ميتا ومنافسيها في مجال الذكاء الاصطناعي وعلى رأسهم OpenAI، قد يُغذي فقاعة مالية جديدة.
ولمنح المجموعة الجديدة التي أنشأتها ميتا ما يكفي من القدرة الحاسوبية لتطوير نماذج ذكاء اصطناعي متقدمة، شرعت الشركة في بناء مراكز بيانات ضخمة، وأبرمت اتفاقات حوسبة سحابية مع شركات مثل أوراكل وغوغل وكور ويف.
وقال زوكربيرغ إن الشركة تلاحظ نمطاً يشير إلى أن ميتا ستحتاج إلى قدرة حوسبية أكبر مما كان مقدّراً في البداية. وأكد أنه بمرور الوقت ستؤتي هذه الاستثمارات المتزايدة في الذكاء الاصطناعي ثمارها الكبرى. وأضاف: “القدرة على ضخ استثمارات أكبر بكثير في هذا المجال من المرجّح جداً أن تكون خطوة مربحة على مدى فترة زمنية معينة”.
وأوضح زوكربيرغ أنه حتى في حال أنفقت ميتا أكثر من اللازم على البنية التحتية للذكاء الاصطناعي، يمكن للشركة إعادة توظيف هذه القدرات لتحسين أنظمة التوصية الأساسية ضمن “عائلة تطبيقاتها وإعلاناتها” بطريقة مربحة.
- كغيرها من منافسيها، رفعت ميتا توقعاتها للإنفاق الرأسمالي، مشيرة إلى أن الإنفاق سيبلغ هذا العام بين 70 و72 مليار دولار، مقارنة بالتقديرات السابقة التي تراوحت بين 66 و72 مليار دولار.
- في المقابل، أعلنت شركة ألفابت يوم الأربعاء عن رفع نطاق إنفاقها الرأسمالي إلى 91 – 93 مليار دولار، ارتفاعاً من التقدير السابق البالغ 75 – 85 مليار دولار.
- بينما قالت مايكروسوفت في مكالمتها بشأن الأرباح إنها تتوقع تسارع نمو الإنفاق الرأسمالي في عام 2026 بعد أن كانت تتوقع تباطؤه سابقاً.
أسباب الإنفاق الضخم على الـ AI
ويشرح أستاذ علم الحاسوب وخبير الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا المعلومات في السيليكون فالي كاليفورنيا، الدكتور حسين العمري، أسباب الإنفاق الضخم على الذكاء الاصطناعي، على النحو التالي:
- البُنى التحتية للذكاء الاصطناعي تمثّل حجر الأساس لتقديم خدمات مثل النماذج اللغوية الكبيرة، التعلّم العميق، الحوسبة السريعة.
- الطلب المؤسساتي على خدمات الذكاء الاصطناعي، الحوسبة السحابية، الاشتراك في أدوات مثل الذكاء الاصطناعي التوليدي بدأ يكتسب زخماً. على سبيل المثال، مايكروسوفت ذكرت أن طلبها يفوق السعة الحالية.
- السبق في هذا المجال يمكن أن يولّد تفوّقاً تنافسياً طويل الأمد. مَن يبني اليوم بنية قوية يمكنه أن يجني عوائد لسنوات مقبلة.
لكنه في الوقت نفسه يحدد مجموعة عوامل تقلق المستثمرين، وأهمها:
- رغم النمو الكبير في الإيرادات، إلا أن تكاليف الإنفاق ضخمة وتحوم حولها أسئلة: متى ستظهر العوائد الفعلية؟ هل هذه النفقات محسوبة؟
- هناك مخاوف من أن تصبح هذه الاستثمارات مبكرة جداً أو فوق المطلوب، ما يؤدي إلى فائض قدرة أو عقبات تشغيلية.
- أسهم بعض هذه الشركات تراجعت، رغم إعلانها نموًّا في الإيرادات، لأن التوقعات المستقبلية أو هوامش الربحية لم تكن كافية لتبرير الإنفاق الضخم. على سبيل المثال، الأسهم تراجعت لمايكروسوفت رغم نتائج قوية.
- المستثمرون يريدون رؤية دليل على أن هذه الإنفاقات تؤدّي إلى خدمات فعليّة مربحة، وأنها ليست فقط سباقًا نحو الإنفاق.
وحول “هل سينفد صبر المستثمرين؟”، يقول إن هناك ثلاثة تصورات محتملة:
- التصور الإيجابي: الشركات تنجح في تحويل البُنى التحتية الضخمة إلى خدمات ومنتجات مدفوعة بسرعة كافية، وتحقق هوامش ربح معقولة. في هذه الحالة، سيُنظر إلى هذا الإنفاق بوصفه استثماراً استراتيجياً ذكيّاً.
- التصور المحايد: تحقق الشركات نمواً، لكن ببطء، وتبقى التكاليف العالية تؤثّر على هوامش الربح لبعض الوقت. المستثمرون سيكونون صبورين إلى حدٍّ ما، لكن مع توقعات متعدّدة، والصبر قد يقلّ تدريجياً.
- التصور السلبي: الإنفاق الكبير لا يُترجَم إلى عوائد كافية، أو ظهور فائض قدرة أو منافسة كبيرة أو تغييرات في السوق تجعل التوقعات غير واقعية، فيَبدأ المستثمرون بسحب الثقة، وقد نشهد تصحيحات كبيرة في قيمة الأسهم أو في خطط الإنفاق.
ويضيف: المستثمرون لم ينفد صبرهم بعد، ولكنهم ينتظرون ما هو أكثر من مجرد إعلانات؛ إنهم يريدون نتائج واضحة وسريعة نسبياً. فالذكاء الاصطناعي ليس فقاعة ولكن تقييم الشركات وكميات الإنفاق على الذكاء الاصطناعي قد تكون فقاعة.
نقلا عن موقع سكاي نيوز عربية


 
         
         
         
         
         
        